فصل: تفسير الآيات رقم (33- 64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 64‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

تقول الروايات التي تصف المناظرة بين النبي- صلى الله عليه وسلم- ووفد نجران اليمن‏:‏ إن هذا القصص الذي ورد في هذه السورة عن مولد عيسى عليه السلام، ومولد أمه مريم، ومولد يحيى، وبقية القصص جاء رداً على ما أراد الوفد إطلاقه من الشبهات؛ وهو يستند إلى ما جاء في القرآن عن عيسى عليه السلام بأنه كلمة الله إلى مريم وروح منه، وأنهم كذلك سألوا عن أمور لم ترد في سورة مريم وطلبوا الجواب عنها‏.‏‏.‏

وقد يكون هذا صحيحاً‏.‏‏.‏ ولكن ورود هذا القصص في هذه السورة على هذا النحو يمضي مع طريقة القرآن العامة في إيراد القصص لتقرير حقائق معينة يريد إيضاحها‏.‏ وغالباً ما تكون هذه الحقائق هي موضوع السورة التي يرد فيها القصص؛ فيساق القصص بالقدر وبالأسلوب الذي يركز هذه الحقائق ويبرزها ويحييها‏.‏‏.‏ فما من شك أن للقصص طريقته الخاصة في عرض الحقائق، وإدخالها إلى القلوب، في صورة حية، عميقة الإيقاع، بتمثيل هذه الحقائق في صورتها الواقعية وهي تجري في الحياة البشرية‏.‏ وهذا أوقع في النفس من مجرد عرض الحقائق عرضاً تجريدياً‏.‏

وهنا نجد هذا القصص يتناول ذات الحقائق التي يركز عليها سياق السورة، وتظهر فيها ذات الخطوط العريضة فيها‏.‏ ومن ثم يتجرد هذا القصص من الملابسة الواقعة المحدودة التي ورد فيها؛ ويبقى عنصراً أصيلاً مستقلاً؛ يتضمن الحقائق الأصيلة الباقية في التصور الاعتقادي الإسلامي‏.‏

إن القضية الأصيلة التي يركز عليها سياق السورة كما قدمنا هي‏:‏ قضية التوحيد‏.‏ توحيد الألوهية وتوحيد القوامة‏.‏‏.‏ وقصة عيسى- وما جاء من القصص مكملاً لها في هذا الدرس- تؤكد هذه الحقيقة، وتنفي فكرة الولد والشريك، وتستبعدهما استبعاداً كاملاً؛ وتظهر زيف هذه الشبهة وسخف تصورها؛ وتبسط مولد مريم وتاريخها، ومولد عيسى وتاريخ بعثته وأحداثها، بطريقة لا تدع مجالاً لإثارة أية شبهة في بشريته الكاملة، وأنه واحد من سلالة الرسل، شأنه شأنهم، وطبيعته طبيعتهم، وتفسر الخوارق التي صاحبت مولده وسيرته تفسيراً لا تعقيد فيه ولا غموض، من شأنه أن يريح القلب والعقل، ويدع الأمر فيهما طبيعياً عادياً لا غرابة فيه‏.‏‏.‏ حتى إذا عقب على القصة بقوله‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏}‏‏.‏‏.‏ وجد القلب برد اليقين والراحة؛ وعجب كيف ثارت تلك الشبهات حول هذه الحقيقة البسيطة‏؟‏

والقضية الثانية التي تنشأ من القضية الأولى في سياق السورة كله هي قضية حقيقة الدين وأنه الإسلام‏.‏ ومعنى الإسلام وأنه الاتباع والاستسلام‏.‏‏.‏ وهذه ترد كذلك في ثنايا القصص واضحة‏.‏‏.‏ ترد في قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏‏.‏

‏.‏ وفي هذا القول تقرير لطبيعة الرسالة، وأنها تأتي لإقرار منهج، وتنفيذ نظام، وبيان الحلال والحرام، ليتبعه المؤمنون بهذه الرسالة ويسلموا به‏.‏‏.‏ ثم يرد معنى الاستسلام والاتباع على لسان الحواريين‏:‏ ‏{‏فلما أحس عيسى منهم الكفر قال‏:‏ من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون‏:‏ نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون‏.‏ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏‏.‏‏.‏

ومن الموضوعات التي يركز عليها سياق السورة تصوير حال المؤمنين مع ربهم‏.‏‏.‏ وهذا القصص يعرض جملة صالحة من هذه الحال في سير هذه النخبة المختارة من البشر، التي اصطفاها وجعلها ذرية بعضها من بعض‏.‏ وتتمثل هذه الصور الوضيئة في حديث امرأة عمران مع ربها ومناجاته في شأن وليدتها‏.‏‏.‏ وفي حديث مريم مع زكريا‏.‏ وفي دعاء زكريا ونجائه لربه‏.‏ وفي رد الحواريين على نبيهم، ودعائهم لربهم‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏‏.‏

حتى إذا انتهى القصص جاء التعقيب متضمناً وملخصاً هذه الحقائق، معتمداً على وقائع القصص في تقرير الحقائق التي يقررها‏.‏‏.‏ فيتناول حقيقة عيسى- عليه السلام- وطبيعة الخلق والإرادة الإلهية‏.‏ والوحدانية الخالصة‏.‏ ودعوة أهل الكتاب إليها‏.‏ ودعوتهم إلى المباهلة عليها‏.‏‏.‏ وينتهي الدرس ببيان جامع شامل لأصل هذه الحقيقة ليتوجه به النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل الكتاب عامة‏.‏‏.‏ من حضر منهم المناظرة ومن لم يحضر ومن كان من ذلك الجيل ومن يجيء بعده إلى آخر الزمان قل‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏:‏ ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏.‏ فإن تولوا فقولوا‏:‏ اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا ينتهي الجدل؛ ويتبين ماذا يريد الإسلام من الناس، وماذا يضع لحياتهم من أساس‏.‏ ويحدد معنى الدين ومعنى الإسلام؛ وتنتفي كل صورة مشوهة أو مدخولة يدعي لها أصحابها أنها دين‏.‏ أو أنها إسلام‏.‏‏.‏ وهذا هو الهدف النهائي للدرس الماضي، وللسورة كلها كذلك، تولاها القصص بالبيان والإيضاح في الصورة القصصية الجميلة الجذابة العميقة الإيحاء‏.‏‏.‏ وهذه وظيفة القصص القرآني وطبيعته التي تحكم أسلوبه وطريقة عرضه في شتى السور على نهج خاص‏.‏

وقد عرضت قصة عيسى في سورة مريم، وعرضت هنا‏.‏ وبمراجعة النصوص هنا وهناك تبدو زيادة بعض الحلقات هنا، مع اختصار في بعض الحلقات‏.‏‏.‏ فقد كان هناك تفصيل مطول في سورة مريم لحلقة مولد عيسى‏.‏ ولم تكن هناك حلقة مولد مريم‏.‏ وهنا تفصيل في رسالة عيسى والحواريين واختصار في قصة مولده كما أن التعقيب هنا أطول لأنه جاء بصدد مناظرات حول قضية أشمل، وهي قضية التوحيد والدين والوحي والرسالة، مما لم يكن موجوداً في سورة مريم‏.‏‏.‏ مما يكشف عن طبيعة الأسلوب القرآني في عرض القصص، مساوقاً لجو السورة التي يعرض فيها، ولمناسبته فيها

والأن نأخذ في استعراض النصوص تفصيلاً‏.‏

يبدأ هذا القصص ببيان من اصطفاهم الله من عباده واختارهم لحمل الرسالة الواحدة بالدين الواحد منذ بدء الخليقة، ليكونوا طلائع الموكب الإيماني في شتى مراحله المتصلة على مدار الأجيال والقرون‏.‏ فيقرر أنهم ذرية بعضها من بعض‏.‏ وليس من الضروري أن تكون ذرية النسب- وإن كان نسب الجميع يلتقي في آدم ونوح- فهي أولاً رابطة الاصطفاء والاختيار الإلهي؛ ونسب هذه العقيدة الموصول في ذلك الموكب الإيماني الكريم‏:‏

‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً، وآل إبراهيم وآل عمران، على العالمين‏.‏ ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد ذكر السياق آدم ونوحا فردين؛ وذكر آل إبراهيم وآل عمران أسرتين‏.‏ إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحاً بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء‏.‏ فأما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك- على القاعدة التي تقررت في سورة البقرة عن آل إبراهيم‏:‏ قاعدة أن وراثة النبوة والبركة في بيته ليست وراثة الدم، إنما هي وراثة العقيدة‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال‏:‏ إني جاعلك للناس إماماً‏.‏ قال‏:‏ ومن ذريتي‏؟‏ قال‏:‏ لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ وبعض الروايات تذكر أن عمران من آل إبراهيم‏.‏ فذكر آل عمران إذن تخصيص لهذا الفرع لمناسبة خاصة، هي عرض قصة مريم وقصة عيسى عليه السلام‏.‏‏.‏ كذلك نلاحظ أن السياق لم يذكر من آل إبراهيم لا موسى ولا يعقوب ‏(‏وهو إسرائيل‏)‏ كما ذكر آل عمران‏.‏‏.‏ ذلك أن السياق هنا يستطرد إلى الجدل حول عيسى بن مريم وحول إبراهيم- كما سيأتي في الدرس التالي- فلم تكن هناك مناسبة لذكر موسى في هذا المقام أو ذكر يعقوب‏.‏‏.‏

ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم‏:‏

‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏:‏ رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم‏.‏ فلما وضعتها قالت‏:‏ رب‏:‏ إني وضعتها أنثى- والله أعلم بما وضعت- وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم؛ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏.‏ فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً، وكفلها زكريا‏.‏ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً‏.‏ قال‏:‏ يا مريم أنى لك هذا‏؟‏ قالت‏:‏ هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

وقصة النذر تكشف لنا عن قلب «امرأة عمران»- أم مريم- وما يعمره من إيمان، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك‏.‏ وهو الجنين الذي تحمله في بطنها‏.‏ خالصاً لربها، محرراً من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه‏.‏ والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح‏.‏ فما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده‏.‏

‏.‏ فهذا هو التحرر إذن‏.‏‏.‏ وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية‏!‏

ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر‏.‏ فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه، أو في مجريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة‏.‏‏.‏ لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله‏.‏ وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله‏.‏ وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان‏.‏‏.‏

وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران، بأن يتقبل ربها منها نذرها- وهو فلذة كبدها- ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله، والتوجه إليه كلية، والتحرر من كل قيد، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه‏:‏

‏{‏رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني‏.‏ إنك أنت السميع العليم‏}‏‏.‏‏.‏

ولكنها وضعتها أنثى؛ ولم تضعها ذكراً‏!‏

‏{‏فلما وضعتها قالت‏:‏ رب إني وضعتها أنثى- والله أعلم بما وضعت- وليس الذكر كالأنثى‏.‏ وإني سميتها مريم‏.‏ وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كانت تنتظر ولداً ذكراً؛ فالنذر للمعابد لم يكن معروفاً إلا للصبيان، ليخدموا الهيكل، وينقطعوا للعبادة والتبتل‏.‏ ولكن ها هي ذي تجدها أنثى‏.‏ فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة‏:‏

‏{‏رب‏.‏ إني وضعتها أنثى‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏‏.‏‏.‏

ولكنها هي تتجه إلى ربها بما وجدت، وكأنها تعتذر إن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة‏.‏

‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏‏.‏‏.‏

ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجال‏:‏ ‏{‏وإني سميتها مريم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة‏.‏ مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه‏.‏ يحدثه بما في نفسه، وبما بين يديه، ويقدم له ما يملك تقديماً مباشراً لطيفاً‏.‏ وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم‏.‏ حال الود والقرب والمباشرة، والمناجاة البسيطة العبارة، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد‏.‏ مناجاة من يحس أنه يحدث قريباً ودوداً سميعاً مجيباً‏.‏

‏{‏وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها، وتدعها لحمايته ورعايته، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم‏.‏‏.‏

وهذه كذلك كلمة القلب الخالص، ورغبة القلب الخالص‏.‏ فما تود لوليدتها أمراً خيراً من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم‏!‏

‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏‏.‏‏.‏

جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر‏.‏‏.‏ وإعداداً لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى- عليه السلام- على غير مثال من ولادة البشر‏.‏

‏{‏وكفلها زكريا‏}‏‏.‏‏.‏

أي جعل كفالتها له، وجعله أميناً عليها‏.‏‏.‏ وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي‏.‏ من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل‏.‏

ونشأت مباركة مجدودة‏.‏ يهيئ لها الله من رزقه فيضاً من فيوضاته‏:‏

‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً‏.‏ قال‏:‏ يا مريم أنى لك هذا‏؟‏ قالت‏:‏ هو من عند الله‏.‏ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة‏.‏ فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقاً‏.‏ حتى ليعجب كافلها- وهو نبي- من فيض الرزق‏.‏ فيسألها‏:‏ كيف ومن أين هذا كله‏؟‏ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله، وتفويض الأمر إليه كله‏:‏

‏{‏هو من عند الله‏.‏ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏‏.‏

وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه‏.‏ والتواضع في الحديث عن هذا السر، لا التنفج به والمباهاة‏!‏ كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا‏.‏ هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى‏.‏‏.‏

عندئذ تحركت في نفس زكريا، الشيخ الذي لم يوهب ذرية، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية‏.‏ الرغبة في الذرية‏.‏ في الامتداد‏.‏ في الخلف‏.‏‏.‏ الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل‏.‏ إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها‏:‏

‏{‏هنالك دعا زكريا ربه‏.‏ قال‏:‏ رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏.‏ إنك سميع الدعاء‏.‏‏.‏ فنادته الملائكة- وهو قائم يصلي في المحراب- أن الله يبشرك بيحيى، مصدقاً بكلمة من الله، وسيداً وحصوراً، ونبياً من الصالحين‏.‏‏.‏ قال‏:‏ رب أنى يكون لي غلام، وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر‏.‏ قال‏:‏ كذلك الله يفعل ما يشاء‏.‏ قال‏:‏ رب اجعل لي آية‏.‏ قال‏:‏ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا؛ واذكر ربك كثيراً، وسبح بالعشي والإبكار‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك‏.‏‏.‏ نجدنا أمام حادث غير عادي‏.‏ يحمل مظهراً من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر، الذي يحسبه البشر قانوناً لا سبيل إلى إخلافه؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون‏!‏ فإذا لم يستطيعوا تكذيبه، لأنه واقع، صاغوا حوله الخرافات والأساطير‏!‏

فها هو ذا «زكريا» الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها‏.‏‏.‏ ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف- وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة- فيتوجه إلى ربه يناجيه، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة‏:‏

‏{‏هنالك دعا زكريا ربه‏.‏

قال‏:‏ رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏.‏ إنك سميع الدعاء‏}‏‏.‏‏.‏

فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب‏؟‏

كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد‏:‏

‏{‏فنادته الملائكة- وهو قائم يصلي في المحراب- أن الله يبشرك بيحيى، مصدقاً بكلمة من الله‏.‏ وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين‏}‏‏.‏‏.‏

لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء؛ ويملك الإجابة حين يشاء‏.‏ وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده؛ «يحيى»؛ وصفته معروفة كذلك‏:‏ سيداً كريماً، وحصوراً يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات‏.‏ ومؤمناً مصدقاً بكلمة تأتيه من الله‏.‏ ونبياً صالحاً في موكب الصالحين‏.‏

لقد استجيبت الدعوة، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانوناً‏.‏ ثم يحسبون أن مشيئة الله- سبحانه- مقيدة بهذا القانون‏!‏ وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانوناً لا يخرج عن أن يكون أمراً نسبياً- لا مطلقاً ولا نهائياً- فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة‏.‏‏.‏ فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله‏.‏ وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله، فلا يخبط في التيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل‏!‏

ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه- وهل زكريا إلا إنسان على كل حال- واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر‏؟‏

‏{‏قال‏:‏ رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وجاءه الجواب‏.‏‏.‏ جاءه في بساطة ويسر‏.‏ يرد الأمر إلى نصابه‏.‏ ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها، ولا غرابة في كونها‏:‏

‏{‏قال‏:‏ كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏‏.‏‏.‏

كذلك‏!‏ فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائماً على هذا النحو؛ ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة‏!‏

كذلك‏.‏ بهذا اليسر‏.‏ وبهذه الطلاقة‏.‏ يفعل الله ما يشاء‏.‏‏.‏ فماذا في أن يهب لزكريا غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر‏؟‏ إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها، ويتخذون منها قانوناً‏!‏ فأما بالقياس إلى الله فلا مألوف ولا غريب‏.‏‏.‏ كل شيء مرده إلى توجه المشيئة، والمشيئة مطلقة من كل القيود‏!‏

ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى، ولدهشة المفاجأة في نفسه، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها‏:‏

‏{‏قال‏:‏ رب اجعل لي آية‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏

هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه‏.‏‏.‏ إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً‏.‏ واذكر ربك كثيراً‏.‏ وسبح بالعشي والإبكار‏}‏‏.‏‏.‏

ويسكت السياق هنا‏.‏ ونعرف أن هذا قد كان فعلاً‏.‏ فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره‏.‏‏.‏ لسانه هذا هو لسانه‏.‏‏.‏ ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه‏.‏‏.‏ أي قانون يحكم هذه الظاهرة‏؟‏ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية‏.‏‏.‏ فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة‏.‏‏.‏ كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر‏!‏‏!‏‏!‏

وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيداً- في السياق- لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات‏.‏‏.‏ وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة‏.‏‏.‏ فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام‏.‏ وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة‏.‏‏.‏

‏{‏وإذ قالت الملائكة‏:‏ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين‏.‏ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين‏}‏‏.‏‏.‏

وأي اصطفاء‏؟‏‏!‏ وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة، كما تلقاها أول هذه الخليقة‏:‏ «آدم»‏؟‏ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها‏؟‏ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية‏.‏‏.‏ وهو بلا جدال أمر عظيم‏.‏‏.‏

ولكنها- حتى ذلك الحين- لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم‏!‏

والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى‏.‏ وذلك لما لابس مولد عيسى- عليه السلام- من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سراً لا يشرف‏.‏‏.‏ قبحهم الله‏!‏‏!‏

وهنا تظهر عظمة هذا الدين؛ ويتبين مصدره عن يقين‏.‏ فها هو ذا محمد- صلى الله عليه وسلم- رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب- ومنهم النصارى- ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات‏.‏‏.‏ ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على «نساء العالمين» بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق‏.‏ وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبرراً لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد‏!‏

أي صدق‏؟‏ وآية عظمة‏؟‏ وأية دلالة على مصدر هذا الدين، وصدق صاحبه الأمين‏!‏

إنه يتلقى «الحق» من ربه؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام؛ فيعلن هذا الحق، في هذا المجال‏.‏‏.‏ ولو لم يكن رسولاً من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال‏!‏

‏{‏يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين‏}‏‏.‏‏.‏

طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيداً للأمر العظيم الخطير‏.‏

وعند هذا المقطع من القصة، وقبل الكشف عن الحدث الكبير‏.‏‏.‏ يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص‏.‏‏.‏ إنه إثبات الوحي، الذي ينبئ النبي- صلى الله عليه وسلم- بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب، في هذا الأمر‏:‏

‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏.‏ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم‏؟‏ وما كنت لديهم إذ يختصمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم، حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل، وفاء لنذرها وعهدها مع ربها‏.‏ والنص يشير إلى حادث لم يذكره «العهد القديم» ولا «العهد الجديد» المتداولان؛ ولكن لا بد أنه كان معروفاً عند الأحبار والرهبان‏.‏ حادث إلقاء الأقلام‏.‏‏.‏ أقلام سدنة الهيكل‏.‏‏.‏ لمعرفة من تكون مريم من نصيبه‏.‏ والنص القرآني لا يفصل الحادث- ربما اعتماداً على أنه كان معروفاً لسامعيه، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة- فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة- بواسطة إلقاء الأقلام- لمعرفة من هي من نصيبه، على نحو ما نصنع في «القرعة» مثلاً‏.‏ وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن‏.‏ فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت‏.‏ وكانت هذه هي العلامة بينهم‏.‏ فسلموا بمريم له‏.‏

وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حاضره، ولم يبلغ إلى علمه‏.‏ فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها، فاتخذها القرآن- في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها- دليلاً على وحي من الله لرسوله الصادق‏.‏ ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة‏.‏ ولو كانت موضع جدال لجادلوه؛ وهم قد جاءوا للجدال‏!‏

والأن نجيء إلى مولد عيسى‏:‏ العجيبة الكبرى في عرف الناس، والشأن العادي للمشيئة الطليقة‏:‏

‏{‏إذ قالت الملائكة‏:‏ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم‏.‏ وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلاً؛ ومن الصالحين‏.‏ قالت‏:‏ رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر‏؟‏ قال‏:‏ كذلك الله يخلق ما يشاء‏.‏ إذا قضى أمراً فإنما يقول له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏.‏‏.‏ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل‏.‏ ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بأية من ربكم‏:‏ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؛ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله؛ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم‏.‏ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏.‏ ومصدقاً لما بين يدي من التوارة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم، فاتقوا الله وأطيعون‏.‏

إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏.‏ هذا صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

لقد تأهلت مريم- إذن- بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل، واستقبال هذا الحدث، وها هي ذي تتلقى- لأول مرة- التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير‏:‏

‏{‏إذ قالت الملائكة‏:‏ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم‏.‏ وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين‏.‏ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين‏}‏‏.‏‏.‏

إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله‏.‏ بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم‏.‏‏.‏ فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة‏.‏ وهو الكلمة في الحقيقة‏.‏ فماذا وراء هذا التعبير‏؟‏

إن هذه وأمثالها، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد‏.‏‏.‏ ربما كانت من الذي عناه الله بقوله‏:‏ ‏{‏أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏.‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏

ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله، وصنعته وقدرته، ومشيئته الطليقة‏:‏

لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب- وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏ سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي، أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت‏!‏ وهذه كتلك في صنع الله‏.‏ وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

من أين جاءت هذه الحياة‏؟‏ وكيف جاءت‏؟‏ إنها قطعاً شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض‏.‏‏.‏ شيء زائد‏.‏ وشيء مغاير‏.‏ وشيء ينشئ آثاراً وظواهر لا توجد أبداً في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق‏.‏‏.‏

هذا السر من أين جاء‏؟‏ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر‏!‏ كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم‏!‏

نحن لا نعلم‏.‏ وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها- نحن البشر- بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها‏.‏ أو لإنشائها بأيدينا من الموات‏!‏

نحن لا نعلم‏.‏‏.‏ ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم‏.‏‏.‏ وهو يقول لنا‏:‏ إنها نفخة من روحه‏.‏ وإن الأمر قد تم بكلمة منه‏.‏ ‏{‏كن‏.‏ فيكون‏}‏‏.‏‏.‏

ما هي هذه النفخة‏؟‏ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام‏؟‏

ما هي‏؟‏ وكيف‏؟‏ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه‏.‏ لأنه ليس من شأنه‏.‏ إنه لم يوهب القدرة على إدراكه‏.‏ إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئاً في وظيفته التي خلقه الله لها- وظيفة الخلافة في الأرض- إنه لن يخلق حياة من موات‏.‏

‏.‏ فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة، وماهية النفخة من روح الله، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية‏؟‏

والله- سبحانه- يقول‏:‏ إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة- حتى على الملائكة- فلا بد إذن أن تكون شيئاً آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب‏!‏ وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنساً نشأ نشأة ذاتية، وأن له اعتباراً خاصاً في نظام الكون، ليس لسائر الأحياء‏!‏

وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارئ لما عرضناه جدلاً حول نشأة الإنسان‏!‏

المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات‏.‏‏.‏

وقد شاء الله- بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة- أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقاً معيناً‏.‏ طريق التقاء ذكر وأنثى‏.‏ واجتماع بويضة وخلية تذكير‏.‏ فيتم الإخصاب، ويتم الإنسال‏.‏ والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة‏.‏

ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة‏.‏‏.‏ حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان‏.‏ فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى‏.‏ وإن لم تكن مثلها تماماً‏.‏ أنثى فقط‏.‏ تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء‏.‏ فتنشأ فيها الحياة‏!‏

أهذه النفخة هي الكلمة‏؟‏ آلكلمة هي توجه الإرادة‏؟‏ آلكلمة‏:‏ «كن» التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة‏؟‏ والكلمة هي عيسى، أو هي التي منها كينونته‏؟‏

كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات‏.‏‏.‏ وخلاصتها هي تلك‏:‏ أن الله شاء أن ينشئ حياة على غير مثال‏.‏ فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله‏.‏ ندرك آثارها، ونجهل ماهيتها‏.‏ ويجب أن نجهلها‏.‏ لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلاً في تكليف الاستخلاف‏!‏

والأمر هكذا سهل الإدراك‏.‏ ووقوعه لا يثير الشبهات‏!‏

وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم‏.‏‏.‏ فتضمنت البشارة نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه‏.‏ وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه‏.‏‏.‏ ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه‏:‏ ‏{‏وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين‏}‏‏.‏‏.‏ كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده ‏{‏ويكلم الناس في المهد‏}‏‏.‏‏.‏ ولمحة من مستقبله‏:‏ ‏{‏وكهلاً‏}‏‏.‏‏.‏ وسمته والموكب الذي ينتسب إليه‏:‏ ‏{‏ومن الصالحين‏}‏‏.‏‏.‏

فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة‏.‏ واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان‏:‏

‏{‏قالت‏:‏ رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر‏؟‏‏}‏‏.‏

وجاءها الجواب، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود‏:‏

‏{‏قال‏:‏ كذلك الله يخلق ما يشاء‏.‏ إذا قضى أمراً فإنما يقول له‏:‏ كن فيكون‏}‏‏.‏‏.‏

وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب‏:‏ كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب‏!‏‏!‏

وهكذا كان القرآن ينشئ التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب‏.‏ وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء‏.‏‏.‏

ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال؛ وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل‏.‏‏.‏ وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح، ويلتقيان في سياق واحد، كأنما يقعان اللحظة، على طريقة القرآن‏:‏

‏{‏ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل‏}‏‏.‏‏.‏

والكتاب قد يكون المراد به الكتابة؛ وقد يكون هو التوراة والإنجيل، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان‏.‏ والحكمة حالة في النفس يتأتي معها وضع الأمور في مواضعها، وإدراك الصواب واتباعه‏.‏ وهي خير كثير‏.‏ والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل‏.‏ فهي أساس الدين الذي جاء به‏.‏ والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل‏.‏ وهذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة، وهي قاعدة دين المسيح- عليه السلام- وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع؛ ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل‏.‏ أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص‏.‏ هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء‏.‏

‏{‏ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم‏.‏ إن في ذلك لآية لكم‏.‏ إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى- عليه السلام- كانت لبني إسرائيل، فهو أحد أنبيائهم‏.‏ ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى- عليه السلام- وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم، هي كتاب عيسى كذلك، مضافاً إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير‏.‏

والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة، وإحياء الموتى من الناس، وإبراء المولود الأعمى، وشفاء الأبرص، والإخبار بالغيب- بالنسبة له- وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل، وهو بعيد عن رؤيته بعينه‏.‏

وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح- عليه السلام- كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى- أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند الله‏.‏ وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلاً وتحديدا؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط‏!‏

وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة‏.‏ ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية‏.‏‏.‏ وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم- عليه السلام- وإذا كان الله قادراً أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال‏.‏‏.‏ ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رُد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسانُ اللهَ- سبحانه- بمألوف الإنسان‏!‏

‏{‏ومصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏.‏ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون‏.‏ إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏.‏ هذا صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الختام في دعوة عيسى- عليه السلام- لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين الله، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعاً- عليهم الصلاة والسلام- وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى- عليه السلام- بالذات، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين الله التي لا تتبدل بين رسول ورسول‏.‏

فهو إذ يقول‏:‏ ‏{‏ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏‏.‏‏.‏

يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة‏.‏ فالتوارة التي تنزلت على موسى- عليه السلام- وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان، وملابسات حياة بني إسرائيل ‏(‏بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان‏)‏- هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام؛ وجاءت رسالته مصدقة لها، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالاً لهم‏.‏ ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم‏.‏

ومن هذا يتبين أن طبيعة الدين- أي دين- أن يتضمن تنظيماً لحياة الناس بالتشريع؛ وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك‏.‏

فهذا لا يكون ديناً‏.‏ فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر؛ ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله‏.‏

ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية، عن الشعائر التعبدية، عن القيم الخلقية، عن الشرائع التنظيمية، في أي دين يريد أن يصرّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي‏.‏ وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة؛ ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله‏.‏

وهذا ما حدث للمسيحية‏.‏ فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية؛ ولكونها جاءت موقوته لزمن- حتى يجيء الدين الأخير- ثم عاشت بعد زمنها من ناحية‏.‏‏.‏ قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي‏.‏‏.‏ فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه السلام وأنصاره ومن اتبع دينه فيما بعد؛ فأنشأ هذا انفصالاً بين التوراة المتضمنة للشريعة والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي والتهذيب الأخلاقي‏.‏‏.‏ كما أن تلك الشريعة كانت شريعة موقوتة لزمن خاص ولجماعة من الناس خاصة‏.‏ وكان في تقدير الله أن الشريعة الدائمة الشاملة للبشرية كلها ستجيء في موعدها المقدور‏.‏

وعلى أية حال فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نحلة بغير شريعة‏.‏ وهنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها‏.‏ فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصوراً اعتقادياً يفسر الوجود كله، ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود؛ وتقتضي نظاماً تعبدياً وقيماً أخلاقية‏.‏ ثم تقتضي- حتماً- تشريعات منظمة لحياة الجماعة، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي، ومن هذا النظام التعبدي، ومن هذه القيم الأخلاقية‏.‏ وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي، له بواعثه المفهومة، وله ضماناته المكينة‏.‏‏.‏ فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاماً شاملاً للحياة البشرية، واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها، ومن بينهما النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة‏.‏ وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة‏.‏ فقامت معلقة في الهواء‏.‏ أو قامت عرجاء‏!‏

ولم يكن هذا أمراً عادياً في الحياة البشرية، ولا حادثاً صغيراً في التاريخ البشري‏.‏‏.‏ إنما كان كارثة‏:‏ كارثة ضخمة تنبع منها الشقوة والحيرة والانحلال والشذوذ والبلاء الذي تتخبط فيه الحضارة المادية اليوم‏.‏ سواء في البلاد التي لا تزال تعتنق المسيحية- وهي خالية من النظام الاجتماعي لخلوها من التشريع- أو التي نفضت عنها المسيحية وهي في الحقيقة لم تبعد كثيراً عن الذين يدعون أنهم مسيحيون‏.‏‏.‏ فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح، وكما هي طبيعة كل دين يستحق كلمة دين، هي الشريعة المنظمة للحياة، المنبثقة من التصور الاعتقادي في الله، ومن القيم الأخلاقية المستندة إلى هذا التصور‏.‏

‏.‏ وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا تكون مسيحية‏.‏ ولا يكون دين على الإطلاق‏!‏ وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا يقوم نظام اجتماعي للحياة البشرية يلبي حاجات النفس البشرية، ويلبي واقع الحياة البشرية، ويرفع النفس البشرية والحياة البشرية كلها إلى الله‏.‏

وهذه الحقيقة هي أحد المفاهيم التي يتضمنها قول المسيح عليه السلام‏:‏

‏{‏ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏‏.‏

وهو يستند في تبليغ هذه الحقيقة على الحقيقة الكبرى الأولى‏:‏ حقيقة التوحيد الذي لا شبهة فيه‏:‏

‏{‏وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون‏.‏ إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏.‏ هذا صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله‏:‏ المعجزات التي جاءهم بها لم يجئ بها من عند نفسه‏.‏ فما له قدرة عليها وهو بشر‏.‏ إنما جاءهم بها من عند الله‏.‏ ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله‏.‏‏.‏ ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء- فما هو برب وإنما هو عبد- وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب، فلا عبودية إلا لله‏.‏‏.‏ ويختم قوله بالحقيقة الشاملة‏.‏‏.‏ فتوحيد الرب وعبادته، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به‏:‏ ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏ وما عداه عوج وانحراف‏.‏ وما هو قطعاً بالدين‏.‏‏.‏

ومن بشارة الملائكة لمريم بابنها المنتظر، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة‏.‏‏.‏ ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه- عليه السلام- بالكفر من بني إسرائيل، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله‏:‏

‏{‏فلما أحس عيسى منهم الكفر قال‏:‏ من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون‏:‏ نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون‏.‏ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏‏.‏

وهنا فجوة كبيرة في السياق‏.‏ فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل؛ ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد؛ ولا أنه دعا قومه وهو كهل؛ ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه ‏(‏كما جاء في سورة مريم‏)‏‏.‏‏.‏ وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني، لعدم التكرار في العرض من جهة، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى‏.‏‏.‏

والأن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل- بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر؛ والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها، وتؤيد من جاءت على يده‏.‏ ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف‏.‏‏.‏

عندئذ دعا دعوته‏:‏

‏{‏قال‏:‏ من أنصاري إلى الله‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه‏؟‏ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه، وأؤدي عنه‏؟‏

ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه، ويحملون دعوته، ويحامون دونها، ويلغونها إلى من يليهم، ويقومون بعده عليها‏.‏

‏{‏قال الحواريون‏:‏ نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون‏}‏‏.‏

فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين، وأشهدوا عيسى- عليه السلام- على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله‏.‏‏.‏ أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة‏.‏

ثم اتجهوا إلى ربهم يتصلون مباشرة به في هذا الأمر الذي يقومون عليه‏:‏

‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏‏.‏

وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة‏.‏‏.‏ إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد؛ وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول‏.‏‏.‏ وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول‏.‏ فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير؛ ولكنة اتباع لمنهج، والاقتداء فيه بالرسول‏.‏ وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة- كما رأينا- ويكرره بشتى الأساليب‏.‏

ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين‏:‏ ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏‏.‏‏.‏

فأي شهادة وأي شاهدين‏؟‏

إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين‏.‏ شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء؛ وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر‏.‏‏.‏ وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين‏.‏ صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات‏.‏

وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته، ونظام مجتمعه، وشريعة نفسه وقومه‏.‏ فيقوم مجتمع من حوله، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم‏.‏‏.‏ وجهاده لقيام هذا المجتمع، وتحقيق هذا المنهج؛ وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية‏.‏‏.‏ هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء‏!‏ ومن ثم يدعى «شهيداً»‏.‏‏.‏

فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه‏.‏‏.‏ أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين؛ وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج‏.‏ ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من «الشهداء» على حق هذا الدين‏.‏

وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام‏.‏‏.‏ فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون‏.‏ وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين‏!‏ ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه‏.‏ فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام؛ أو حاولها في نفسه، ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية، وإيثاراً لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين‏.‏

شهادة تصد الآخرين عنه‏.‏ وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له‏!‏ وويل لمن يصد الناس عن دين الله عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين وما هو من المؤمنين‏!‏

ويمضي السياق إلى خاتمة القصة بين عيسى- عليه السلام- وبني إسرائيل‏:‏

‏{‏ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين‏.‏ إذ قال الله‏:‏ يا عيسى إني متوفيك، ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة؛ ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة، وما لهم من ناصرين‏.‏ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، والله لا يحب الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

والمكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم- عيسى عليه السلام- مكر طويل عريض‏.‏ فقد قذفوه عليه السلام وقذفوا الطاهرة أمه مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل‏.‏‏.‏ وقد اتهموه بالكذب والشعوذة؛ ووشوا به إلى الحاكم الروماني «بيلاطس» وادعوا أنه «مهيج» يدعو الجماهير للانتقاض على الحكومة‏!‏ وأنه مشعوذ يجدف ويفسد عقيدة الجماهير‏!‏ حتى سلم لهم بيلاطس بأن يتولوا عقابه بأيديهم، لأنه لم يجرؤ- وهو وثني- على احتمال تبعة هذا الإثم مع رجل لم يجد عليه ريبة‏.‏‏.‏ وهذا قليل من كثير‏.‏‏.‏

‏{‏ومكروا ومكر الله‏.‏ والله خير الماكرين‏}‏‏.‏‏.‏

والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله‏.‏‏.‏ والمكر التدبير‏.‏‏.‏ ليسخر من مكرهم وكيدهم إذا كان الذي يواجهه هو تدبير الله‏.‏ فأين هم من الله‏؟‏ وأين مكرهم من تدبير الله‏؟‏

لقد أرادوا صلب عيسى- عليه السلام- وقتله‏.‏ وأراد الله أن يتوفاه، وأن يرفعه إليه‏.‏ وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‏.‏‏.‏ وكان ما أراده الله‏.‏ وأبطل الله مكر الماكرين‏:‏

‏{‏إذ قال الله‏:‏ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‏}‏‏.‏

فأما كيف كانت وفاته، وكيف كان رفعه‏.‏‏.‏ فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله‏.‏ ولا طائل وراء البحث فيها‏.‏ لا في عقيدة ولا في شريعة‏.‏ والذين يجرون وراءها، ويجعلونها مادة للجدل، ينتهي بهم الحال إلى المراء، وإلى التخليط، وإلى التعقيد‏.‏ دون ما جزم بحقيقة‏.‏ ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله‏.‏

وأما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‏.‏

‏.‏ فلا يصعب القول فيه‏.‏ فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح‏.‏‏.‏ الإسلام‏.‏‏.‏ الذي عرف حقيقته كل نبي، وجاء به كل رسول، وآمن به كل من آمن حقاً بدين الله‏.‏‏.‏ وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله‏.‏‏.‏ كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان، وحقيقة الاتباع‏.‏‏.‏ ودين الله واحد‏.‏ وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول‏.‏ والذين يتبعون محمداً- صلى الله عليه وسلم- هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم‏.‏ من لدن آدم- عليه السلام- إلى آخر الزمان‏.‏

وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق‏.‏

فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام‏:‏

‏{‏ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون‏.‏ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين‏.‏ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم‏.‏ والله لا يحب الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذا النص تقرير لجدية الجزاء، وللقسط الذي لا يميل شعرة، ولا تتعلق به الأماني ولا الافتراء‏.‏‏.‏ رجعة إلى الله لا محيد عنها‏.‏ وحكم من الله فيما اختلفوا فيه لا مرد له‏.‏ وعذاب شديد في الدنيا والآخرة للكافرين لا ناصر لهم منه‏.‏ وتوفية للأجر للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا محاباة فيه ولا بخس‏.‏‏.‏ ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏‏.‏‏.‏ فحاشا أن يظلم وهو لا يحب الظالمين‏.‏‏.‏

وكل ما يقوله أهل الكتاب إذن من أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات‏.‏ وكل ما رتبوه على هذا التميع في تصور عدل الله في جزائه من أماني خادعة‏.‏‏.‏ باطل باطل لا يقوم على أساس‏.‏

وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من قصة عيسى التي تدور حولها المناظرة ويدور حولها الجدل، يبدأ التعقيب الذي يقرر الحقائق الأساسية المستفادة من هذا القصص، وينتهي إلى تلقين الرسول- صلى الله عليه وسلم- ما يواجه به أهل الكتاب مواجهة فاصلة تنهي الحوار والجدل؛ وتستقر على حقيقة ما جاء به، وما يدعو إليه، في وضوح كامل وفي يقين‏:‏

‏{‏ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم‏.‏ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب‏.‏ ثم قال له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏.‏ الحق من ربك فلا تكن من الممترين‏.‏ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل‏:‏ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله‏.‏ وإن الله لهو العزيز الحكيم‏.‏

فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين‏.‏ قل‏:‏ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏:‏ ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله‏.‏ فإن تولوا فقولوا‏:‏ اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا نجد هذا التعقيب يتضمن ابتداء صدق الوحي الذي يوحى إلى محمد- صلى الله عليه وسلم-‏:‏

‏{‏ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك القصص‏.‏ وذلك التوجيه القرآني كله‏.‏ فهو وحي من الله‏.‏ يتلوه الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وفي التعبير معنى التكريم والقرب والود‏.‏‏.‏ فماذا بعد أن يتولى الله تعالى التلاوة على محمد نبيه‏؟‏ تلاوة الآيات والذكر الحكيم‏.‏‏.‏ وإنه لحكيم يتولى تقرير الحقائق الكبرى في النفس والحياة بمنهج وأسلوب وطريقة تخاطب الفطرة وتتلطف في الدخول عليها واللصوق بها بشكل غير معهود فيما يصدر عن غير هذا المصدر الفريد‏.‏

ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشئ كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام‏:‏

‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏.‏ خلقه من تراب‏.‏ ثم قال له‏:‏ كن فيكون‏}‏‏.‏‏.‏

إن ولادة عيسى عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر‏.‏ ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر‏؟‏ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى- بسبب مولده- ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب‏.‏‏.‏ أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب‏.‏ وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني‏.‏‏.‏ دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى‏.‏ ودون أن يقولوا عن آدم‏:‏ إن له طبيعة لاهوتية‏.‏ على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب‏:‏ عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك‏!‏ وإن هي إلا الكلمة‏:‏ ‏{‏كن‏}‏ تنشئ ما تراد له النشأة ‏{‏فيكون‏}‏ ‏!‏

وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة‏.‏‏.‏ حقيقة عيسى، وحقيقة آدم، وحقيقة الخلق كله‏.‏ وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح، حتى ليعجب الإنسان‏:‏ كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، وهو جار وفق السنة الكبرى‏.‏ سنة الخلق والنشأة جميعاً‏!‏

وهذه هي طريقة «الذكر الحكيم» في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في أعقد القضايا، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور‏!‏

وعندما يصل السياق بالقضية إلى هذا التقرير الواضح يتجه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يثبته على الحق الذي معه، والذي يتلى عليه، ويؤكده في حسه؛ كما يؤكده في حس من حوله من المسلمين، الذين ربما تؤثر في بعضهم شبهات أهل الكتاب، وتلبيسهم وتضليلهم الخبيث‏:‏

‏{‏الحق من ربك فلا تكن من الممترين‏}‏‏.‏

وما كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ممترياً ولا شاكاً فيما يتلوه عليه ربه، في لحظة من لحظات حياته‏.‏‏.‏ وإنما هو التثبيت على الحق، ندرك منه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة من بعض أفرادها في ذلك الحين‏.‏ كما ندرك منه مدى ما تتعرض له الأمة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد؛ وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين؛ ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد‏.‏

وهنا- وقد وضحت القضية وظهر الحق جلياً- يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية‏:‏

‏{‏فمن حاجك فيه- من بعد ما جاءك من العلم- فقل‏:‏ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم‏.‏ ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين‏}‏‏.‏‏.‏

وقد دعا الرسول- صلى الله عليه وسلم- من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين‏.‏ فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة‏.‏ وتبين الحق واضحاً‏.‏ ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظاً بمكانتهم من قومهم، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم‏!‏‏!‏‏!‏ وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه‏.‏

ثم يمضي التعقيب بعد الدعوة إلى المباهلة- وربما كانت الآيات التالية قد نزلت بعد الامتناع عنها- يقرر حقيقة الوحي، وحقيقة القصص، وحقيقة الوحدانية التي يدور حولها الحديث؛ ويهدد من يتولى عن الحق ويفسد في الأرض بهذا التولي‏:‏

‏{‏إن هذا لهو القصص الحق‏.‏ وما من إله إلا الله‏.‏ وإن الله لهو العزيز الحكيم‏.‏ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين‏}‏‏.‏

والحقائق التي تقررها هذه النصوص سبق تقريرها‏.‏ وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وإبائها‏.‏‏.‏ إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين‏.‏‏.‏

والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم‏.‏ وما ينشأ في الأرض الفساد- في الواقع- إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة‏.‏ لا اعتراف اللسان‏.‏ فاعتراف اللسان لا قيمة له‏.‏ ولا اعتراف القلب السلبي‏.‏ فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس‏.‏‏.‏ إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية‏.‏‏.‏ وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية، فتتوحد العبودية‏.‏‏.‏ لا عبودية إلا لله‏.‏ ولا طاعة إلا لله‏.‏ ولا تلقي إلا عن الله‏.‏

فليس إلا لله تكون العبودية‏.‏ وليس إلا لله تكون الطاعة‏.‏ وليس إلا عن الله يكون التلقي‏.‏‏.‏ التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق‏.‏ والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية‏.‏‏.‏ وإلا فهو الشرك أو الكفر‏.‏ مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول‏.‏

إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره‏:‏ و‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية‏:‏ تعبد العبيد؛ والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم‏.‏ فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله‏.‏

وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو‏.‏ عندما يتعبد الناسُ الناس‏.‏ عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته‏.‏ فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به‏.‏‏.‏ وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد‏.‏

ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء‏:‏ إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله‏.‏‏.‏ وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة‏:‏

‏{‏قل‏:‏ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏:‏ ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏.‏ فإن تولوا فقولوا‏:‏ اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وإنها لدعوة منصفة من غير شك‏.‏ دعوة لا يريد بها النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين‏.‏‏.‏ كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد‏.‏ لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضاً‏.‏ دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم‏.‏

إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئاً‏.‏ لا بشراً ولا حجراً‏.‏ ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً من دون الله أرباباً‏.‏ لا نبياً ولا رسولاً‏.‏ فكلهم لله عبيد‏.‏ إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية‏.‏

‏{‏فإن تولوا فقولوا‏:‏ اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏

فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك‏.‏ والعبودية لله وحده دون شريك‏.‏ وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية‏.‏‏.‏ إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏.‏‏.‏

وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون‏.‏